سورة ص - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر عبدنَا أيوبَ}، وهو ابن عيصو بن إسحاق عليه السلام، أي: من ذريته؛ لأنه بعد يوسف، وامرأته: رحمة بنت إفراثيم بن يوسف. {إِذ نادى ربَّه}، وهو بدل اشتمال من {عبدنا}. و{أيوب}: عطف له، {أَنِّي} أي: بأني {مسني الشيطان بنُصْبٍ} أي: تعب، وفيه قراءات بفتحتين، وبضمتين، وبضم وسكون، وبنصب وسكون. {وعذابٍ} أي: ألم، يريد ما كان يقاسيه من فنون الشدائد، وهو الضر في قوله: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83]، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به، وإلا لقيل: إنه مسّه. وإسناده إلى الشيطان على طريق الأدب في إسناد ما كان فيه كمال إلى الله تعالى، وما كان فيه نقص إلى الشيطان أو غيره، كقول الخليل: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء: 80] ولم يقل: أمرضني. وكقول يوشع عليه السلام: {وَمَآ أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]. وفي الحقيقة: كلٌّ من عند الله. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه، من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك، بكشف البلاء، أو بدفعه وردّه بالصبر الجميل.
ورُوي: أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتدّ أحدهم، فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان: أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فشكا ذلك إلى ربه. وذكر في سبب بلائه؛ أنه ذبح شاة فأكلها، وجاره جائع، أو: رأى منكراً فسكت عنه، أو: استغاثه مظلوم فلم يغثه، أو: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه، فلم يغزه، أو: سؤاله امتحاناً لصبره، أي: هل يصبر أم لا، أو: ابتلاه لرفع درجاته بلا سبب، وهو أولى.
{اركُضْ برِجْلِكَ}، حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام، أي: أرسلنا له جبريل عليه السلام بعد انتهاء مدة مرضة، فقال له: اركض، أي: اضرب برجلك الأرض، وهي أرض موضع بالجابية، فضربها، فنبعت عين، فقيل: {هذا مُغتَسَل باردٌ وشَرابٌ} أي: هذا ما تغتسل منه، وتشرب منه، فيبرأ ظاهرك وباطنك، وقيل: نبعت له عينان؛ حارة للاغتسال، وباردة للشرب، فاغتسل من إحداهما، فبرىء ما في ظاهره، وشرب من الأخرى، فبرىء ما في باطنه، بإذن الله تعالى. ومدة مرضه قيل: ثمان عشرة سنة، وقيل: أربعين، وقيل: سبع سنين، وسبعة أشهر، وسبعة أيام، وسبع ساعات.
{ووهبنا له أهلَه ومثلَهم معهم}، قيل: أحياهم الله بأعيانهم، وزاد مثلهم، وقيل: جمعهم بعد تفرُّقهم، وقيل: أعطاه أمثالهم وزاده ضِعفهم. قال القشيري: وكان له سبع بنات. وثلاثة بنين، في مكتب واحد، فحرّك الشيطانُ الأسطوانةَ، فانهدم البيت عليهم. اهـ. ولم يذكر كم كان له من الزوجات، فقد سلمت منهن {رحمة}، وهلك الباقي.
أعطيناه ذلك {رحمةً منا} أي: رحمة عظيمة علية من قِبلنا.
{وذِكْرى لأُولي الألبابِ} أي: ولنذكرهم بذلك ليصبروا على الشدائد، ويلتجئوا إلى الله فيما ينزل بهم؛ لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه، لِصبره، رغَّبهم في الصبر على البلاء.
ولمّا حلف: لَيَضْربنَّ امرأته مائةَ ضربة، حيث أبطأت عليه في حاجتها. وقيل: باعت ذوائبها واشترت به رغيفين، وكانت متعلق أيوب. وقيل: طمع الشيطان فيها أن يسجد زوجُها له فيشفيه، أمره الله تعالى ببر يمينه، فقال: {وخُذْ بيدك ضِغْثاً}؛ حُزمة صغيرة من حشيش أو رَيحان، وعن ابن عباس رضي الله عنه: قبضة من الشجر، {فاضرِبْ به ولا تَحْنَثْ}، وهذه الرخصة باقية عند الشافعي وأبي حنيفة، خلافاً لمالك؛ لأن الأَيْمَان عنده مبنية على الأعراف. قال تعالى: {إِنَّا وجدناه}؛ علمناه {صابراً} على البلاء، وأما شكواه فليست جزعاً، بل رجوعاً إلى مولاه، على أنه عليه السلام إنما طلب الشفاء خيفة على قومه، حيث كان الشيطانُ يوسوس إليهم: لو كان نبيّاً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبقَ منه إلا القلب واللسان. قلت: طلب الشفاء لا ينافي الرضا؛ لأن العبد ضعيف، لا قوة له على قهرية الحق. ثم قال تعالى: {نِعْمَ العبدُ إِنه أوَّابٌ}؛ رجَّاع إلى الله تعالى. قال القشيري: لم يشغله البلاء عن المُبْلِي. وهو تعليل لمرضه.
الإشارة: كثير من الصوفية اختاروا البلاء على العافية، وبعضهم اختار العافية، قال عليّ رضي الله عنه: لأَن أُعطَى فأَشكر أحبُّ إِليَّ من أن أُبتلى فأَصبرِ، أي: لأنه طريق السلامة، وبه وردت الأحاديث، والأولى للعبد ألا يختار مع سيده شيئاً، بل يكون مفوضاً مستسلماً، يتلقى ما يرد عليه بالترحيب، أيّ شيء كان. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر عبادنا}، وقرأ المكي: عبدنا، إما على إرادة الخبر، وإما أن يريد إبراهيم وحده لشرفه، ثم عطف عليه من بعده، ثم بيَّنهم بقوله: {إِبراهيمَ وإِسحاقَ ويعقوبَ أُولي الأيدي والأبصارِ} أي: أُولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين، أو: أُولي الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة. فعبَّر بالأيدي عن الأعمال؛ لأن أكثرها تُباشر بها، وبالأبصار عن المعارف؛ لأنها أقوى مبادئها. وفيه تعريض بالجهلة الباطلين، كأنهم كالزّمنى والعماة، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما.
{إِنا أخلصناهم بخالصةٍ} أي: جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن، لا شوب فيها، هي {ذِكْرَى الدَّارِ} أي: تذكر للدار الآخرة على الدوام، فإنَّ خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها، وذلك لأن مطمح أنظارهم، ومسرح أفكارهم، في كل ما يأتون وما يذرون، جوار الله عزّ وجل، والفوز بلقائه، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا في الآخرة، فمطلبهم إنما هو الجوار والرؤية. لا مجرد الحضور في تلك الدار، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
ليسَ سُؤلي من الجِنَان نَعيماً *** غيرَ أَنِّي أريدُها لأراكَ
قال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: {إِنا أخلصناهم} بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة، ودعاء الناس إليها، أي: وتزهيدهم في الدنيا، كما هو دَيدن الأنبياء والرسل. وهذا قول قتادة، أو: إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك. وهذا قول مجاهد. اهـ. قلت: مرتبة الرسل تنافي العمل لحرف، فإنَّ أولياء هذه الأمة تحرّروا من العمل للحرف، بل عبدوا الله شكراً ومحبة وعبودية، لا طمعاً في شيء، فكيف بأكابر الرسل. وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار في الحقيقة، وإنما الدنيا معبر إليها.
ومَن قرأ بالإضافة، فمن إضافة الشيء إلى ما بيَّنَهُ؛ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، و {ذكرى}: مصدر مضاف إلى المفعول، أي: بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل: خالصة بمعنى خلوص، وهي مضافة إلى الفاعل، أي: بأن خلصت لهم ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشيء آخر، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
{وإِنهم عندنا لمن المصْطَفَيْنَ} المختارين من بين أبناء جنسهم {الأخْيارِ}: جمع خيّر، أو: خيْر، على التخفيف، كأموات جمع ميّت، أو: ميْت.
الإشارة: أولياء هذه الأمة أي: العارفون بالله يزاحمون الأنبياء والرسل في جلّ المراتب، قال صلى الله عليه وسلم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي: العلماء بالله؛ فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة، بل حطُّوا هممهم على الله، ولم يقصدوا شيئاً سواه، خلعوا النعلين عن الكونين، وركضوا إلى المكوِّن، وكانت لهم اليد الطولى في عمل الطاعات عبوديةً، والبصيرة النافذة في مشاهدة الربوبية، هذه طريقهم، وهذا مذهبهم، ومَن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم. جعلنا الله ممن خرط في سلكهم.


يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر إِسماعيلَ}، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه؛ للإشعار بعلو شأنه، واستقلاله بالشرف والذكر، ولعراقته في الصبر، الذي هو المقصود بالتذكير، وهو أكبر بنيه. {و} اذكر {الْيَسَعَ} بن خطوب بن العجوز، استعمله إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبىء. و ال فيه، قيل: للتعريف، وأصله: يسع، وقيل: زائدة؛ لأنه عجمي علَم، وقيل: هو يوشع، {وذا الكفلِ} وهو ابن عم اليسع، أو: بشر بن أيوب. واختلف في نبوته وسبب لقبه، فقيل: فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل، خوفاً من القتل، فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفل بعبادة رجل صالح كان في وقته. {وكلٌّ} أي: وكلهم {مِّنَ الأخيارِ} المشهورين بالخيرة.
الإشارة: إنما كان هؤلاء مصطفين أخياراً بالوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والصبر على طاعة الملك المعبود، وتحمُّل ما يقرب إلى حضرة الشهود. فكل مَن اتصف بهذه الخصال كان من المُصْطَفَين الأخيار.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6